تاريخ الحركات العمّالية في الدولة العثمانية

"أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قبل أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ" (حديث شريف) أمر السلطان سليمان القانوني بدفع أجور العمال العاملين في إنشاء جامع السليمانية، يومياً؛ ولذلك تم إنشاء "خيمة المحاسبة" في وسط موقع الإنشاء.
24 Eylül 2017 Pazar
24.09.2017

 

"أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قبل أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ" (حديث شريف)

أمر السلطان سليمان القانوني بدفع أجور العمال العاملين في إنشاء جامع السليمانية، يومياً؛ ولذلك تم إنشاء "خيمة المحاسبة" في وسط موقع الإنشاء.

ظهرت طبقة العمال بعد الثورة الصناعية في أوروبا. فقد ألغيت العبودية التي أصبحت تكلف الكثير وقتها ونشأت طبقة من العمال في مختلف الفئات العمرية تعمل مقابل ما يكفي فقط لسد الرمق. وكان أفراد هذه الطبقة يعيشون في ضواحي المدن الصناعية في ظروف صعبة يملؤهم الغضب والحقد. وقد أدت هذه الطبقة إلى تغيير مسار الحياة الاجتماعية والسياسية في أوروبا. وكانت حقوق العمال هي السبب الذي اندلعت من أجله الثورة في فرنسا عام 1848 والتي أدت إلى إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية. وأصبحت الاشتراكية التي ولدت في ذلك المناخ هي كابوس العالم. وقامت الدول الرأسمالية التي خشيت على نفسها من هذا الكابوس بإعطاء العمال مزيداً من الحقوق. وهكذا ظهر مفهوم الدولة الاجتماعية.

يد لا تمسها النار

لم تكن الدولة العثمانية دولة صناعية لذلك كانت طبقة العمال والحركات العمالية أشياء غريبة على الدولة. إلا أن علاقة العامل برب العمل في الثقافة الإسلامية التركية أُسست على أساس ديني أخلاقي قوي.

والإسلام يقول إن البشر خُلقوا في احتياج لبعضهم بعضاً، كما يقول إن أطهر كسب يكسبه الشخص هو ما يكسبه من كده وعمل يده. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل رأى في يده خشونة من أثر العمل بالفأس "هذه يد لا تمسها النار".

دائماً ما يُراد من العامل أن يعمل بأمانة. كان زكريا عليه السلام يعمل بنّاء. وذات يوم بينما كان يتناول الطعام في وقت الراحة من العمل ألقى عليه أحدهم السلام فلم يجبه إلا بعد أن فرغ من تناول الطعام. وعندما سأل عن سبب ذلك قال: " لو كنت أجبت السلام كان سيتعين علي أن أتقاسم طعامي مع الشخص الذي ألقى علي السلام، وعندها لم أكن لأشبع ومن ثم ما كنت لأستطيع أن استجمع قواي وأن أعمل على أكمل وجه كما وعدت صاحب العمل. وهذه يُعد خيانة له."

قوي أمين

قال النبي صلى الله عليه وسلم " إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ."
وقال أيضاً " أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ."
وأيضاً " ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ.

وفي الأمم السابقة يُمتدح رجل استأجر أجيراً وبعد أن فرغ الأجير من عمله ذهب دون أن يأخذ أجره. فاشترى الرجل بأجر العامل شاة وبعد فترة تكاثرت وبعد عدة سنوات أتى العامل إلى الرجل يسأله حقه فسلمه قطيعا كاملا من الأغنام.

يذكر لنا القرآن الكريم أن القوة والأمانة من الصفات المطلوبة لدى العامل. وقد أوصت فتاة "مدين" أباها أن يستأجر موسى عليه السلام لأنها رأت فيه هاتين الصفتين. وتزوج موسى من الفتاة وعمل لدى أبيها عشر سنوات. وتعد هذه الفتاة من الأشخاص النادرين على مر التاريخ الذين تمتعوا بموهبة معرفة معادن الناس. ومن هؤلاء الأشخاص أيضاً الرجل الذي اشترى يوسف عليه السلام من سوق الرقيق في مصر. وأيضاً أبو بكر الصديق الذي عين عمر بن الخطاب خليفة من بعده "رضي الله عنهما".

خيمة المحاسبة

في عهد الدولة العثمانية كان هناك نظام معين لتحديد عدد ساعات العمل. وكانت ساعات العمل منذ مطلع النهار حتى غروب الشمس ما لم يُقرر تقصير المدة. ويتخلل ساعات العمل فترات راحة للطعام والصلاة والاستراحة. ونص "قانون البلدية" الذي أصدره السلطان بايزيد الثاني على أن أجرة العامل تختلف في الصيف عنها في الشتاء، وذلك بسبب اختلاف عدد ساعات النهار في الشتاء عنها في الصيف.

صمام الأمان

أُسس النظام الاقتصادي الإسلامي على العدالة الاجتماعية. ويتيح هذا النظام لكل شخص مزاولة العمل الذي يريده طالما لم يخرج عن الإطار المشروع، كما يتيح الاستثمارات الفردية. وكل شخص يكسب بقدر ما يعمل ولا يمكن لأحد أن يتدخل في أرباح أي شخص أخر طالما اكتسبها من عرق جبينه. ولكل شخص حق التملك والتصرف في أملاكه. مبادئ هذا النظام قريبة من النظام الاقتصادي الليبرالي المطبق في دول العالم الحر. ولكنه ليس ليبرالية بدون رقابة. فهو يعتمد على الاستثمارات الفردية قدر الإمكان في الإنتاج وعلى العدالة الاجتماعية في توزيع الناتج القومي على الأفراد.

إن الإجراءات التي تم اعتمادها في الدول الليبرالية الغربية، في نهايات القرن التاسع عشر باعتبارها صمام أمان بغرض القضاء على محاذير الرأسمالية والقضاء على خطر الاشتراكية، مثل النقابات العمالية والاعتراف بحق الإضراب عن العمل وتعويضات الطرد من العمل والتقاعد، لا تتوافق مع المبادئ التي وضحتها القوانين الشرعية بخصوص عقود الخدمة. فعقد الخدمة يبرم لمدة معينة برضى الطرفين. وينتهي العقد أيضاً برضى الطرفين أو انتهاء المدة المحددة أو إتمام العمل المطلوب. ولا يحق للعامل أن يطلب أجراً غير الذي تم الاتفاق عليه ولا يحق لصاحب العمل أن يطلب من العامل القيام بعمل أكثر من المنصوص عليه في العقد بينهما. أما ساعات العمل وطعام العامل وما إلى ذلك فتحدد وفق العُرف السائد.

أولى الإضرابات

بعد حركة التنظيمات التي أدارت فيها الدولة العثمانية وجهها تجاه الغرب تعرفت الدولة على أولى الحركات العمالية التي كانت نتيجة ضرورية للنهضة الصناعية. وكانت هذه الحركات تنبع من مقاومة العمال لانتشار الاعتماد على الآلات. في عام 1851 هجمت مجموعة من عمال النسيج معظمهم من النساء على آلة النسيج التي تم تأسيسها في "سماكوف" (تقع اليوم في بلغاريا)، ولم يتراجع العمال إلا بعد أن تلقوا وعوداً بعدم استخدام تلك الآلة. وكانت هذه أول حركة عمالية في الأناضول.

في عام 1871 تم البدء بتأسيس جمعيات العمال بهدف مساعدة العمال الفقراء في الدولة العثمانية. ونصادف الإضرابات العمالية اعتباراً من عام 1872. وكان أول إضراب عمالي في ترسانة بناء السفن. وكان هنا في إسطنبول آنذاك حوالي 50 ألف عاملاً. إلا أن هذه الإضرابات كانت في الغالب حركات مقاومة ضد التأخر في دفع أجور العمال. وفي عام 1894 أسس مجموعة من العاملين في مصنع المدافع نقابة عمالية سرية باسم "جمعية العمال العثمانية" إلا أنه تم كشفها وحلها.

بعد تأسيس السلطنة البرلمانية عام 1908 انتشرت الإضرابات العمالية في جميع أنحاء البلاد. ولعدم إخافة رؤوس الأموال الأجنبية تم إصدار قانون تنظيم ساعات العمل عام 1909. وبدأ تأسيس النقابات العمالية اعتباراً من 1912. إلا أن جماعة تركيا الفتاة قامت بإلغاء جميع الحركات العمالية عام 1912 بحجة اندلاع حرب البلقان.

عيد العمال

تم الاحتفال بأول عيد للعمال في الدولة العثمانية في الأول من مايو/أيار عام 1909 بسلانيك. وفي 1 مايو 1921 قامت "الفرقة الاشتراكية التركية" بإضراب عام. وتم تعطيل حركة القطارات والترام والعبارات في إسطنبول وكانت وقتها تحت الاحتلال.

قبول يوم الأول من مايو عيداً للعمال في معظم دول العالم يرجع إلى قيام عمال المحاجر في استراليا بتنظيم مسيرة إلى مقر البرلمان عام 1856 للمطالبة بجعل يوم العمل من ثماني ساعات فقط. وتحول الاحتفال بعيد العمال في يومنا هذا إلى استعراض قوة للحركات اليسارية.

بعد إعلان الجمهورية وفي عصر الحزب الواحد انتشرت الإضرابات بسرعة بسبب سوء الظروف الاقتصادية للدولة. وفي عام 1933 حظرت الحكومة الإضرابات والحركات العمالية وتم إقرار عقوبات شديدة على من يخالف ذلك، كما تم أيضاً إلغاء الاحتفال بعيد العمال. ومع بدأ الحياة الديمقراطية في تركيا عام 1950 بدأ حدوث تحسن في موضوع حصول العمال على حقوقهم